فصل: تفسير الآية رقم (81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (81):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ظِلالًا} الظلال: كل ما يستظل به من البيوت والشجر. وقوله: {مِمَّا خَلَقَ} يعم جميع الاشخاص المظلة.
الثانية: قوله تعالى: {أَكْناناً} الأكنان: جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، وهى هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها. وفى الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي.. الحديث، وفى صحيح البخاري قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبى بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبد الله بن أبى بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث... وذكر الحديث. انفراد بإخراجه البخاري.
الثالثة: قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} يعني القمص، واحدها سربال. {وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} يعني الدروع التي تقى الناس في الحرب، ومنه قول كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم ** من نسج داود في الهيجا سرابيل

الرابعة: إن قال قائل: كيف قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً} ولم يذكر السهل، وقال: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ولم يذكر البرد؟ فالجواب أنهم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد، فذكر لهم نعمه التي تختص بهم كما خصهم بذكر الصوف وغيره، ولم يذكر القطن والكتان ولا الثلج- كما تقدم- فإنه لم يكن ببلادهم، قال معناه عطاء الخراساني وغيره. وأيضا: فذكر أحدهما يدال على الآخر، ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا ** أريد الخير أيهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي هو يبتغينى

الخامسة: قال العلماء: في قوله تعالى: {وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الاعداء، وقد لبسها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقاة الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لامة حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء.
السادسة: قوله تعالى: {كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} قرأ ابن محيصن وحميد {تتم} بتاءين، {نعمته} رفعا على أنها الفاعل. الباقون {يُتِمُّ} بضم الياء على أن الله هو يتمها. و{تُسْلِمُونَ} قراءة ابن عباس وعكرمة {تسلمون} بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف، رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس. الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لان ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح.

.تفسير الآية رقم (82):

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)}
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والايمان. {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا.

.تفسير الآية رقم (83):

{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)}
قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} قال السدى: يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي يعرفون بوته {ثُمَّ يُنْكِرُونَها} ويكذبونه.
وقال مجاهد: يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم، أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وبمثله قال قتادة.
وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله.
وقال الكلبي: هو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا.
وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادسا- يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعا- يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. ويحتمل ثامنا- يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم، نظيرها {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ}. {وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ} يعني جميعهم. حسب ما تقدم.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} نظيره: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} وقد تقدم. {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي في الاعتذار والكلام، كقوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول الحجر ويأتي. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يعني يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لان الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. واصل الكلمة من العتب وهى الموجدة، يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، قال الهروي.
وقال النابغة:
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته ** وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب

.تفسير الآية رقم (85):

{وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي أشركوا. {الْعَذابَ} أي عذاب جهنم بالدخول فيها. {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يمهلون، إذ لا توبة لهم ثم.

.تفسير الآيات (86- 87):

{وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)}
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ} أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفى صحيح مسلم: {من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت} الحديث، خرجه من حديث أنس، والترمذي من حديث أبى هريرة، وفيه: «فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون» وذكر الحديث. {قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ} أي الذين جعلناهم لك شركاء. {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ} أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، في، نطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار.
وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} يعني المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه.
وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم.

.تفسير الآية رقم (88):

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ} قال ابن مسعود: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم، فتلك الزيادة.
وقيل: المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار.
وقيل: المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم. {بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} في الدنيا من الكفر والمعصية.

.تفسير الآية رقم (89):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الايمان، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا، وفيهم قولان: أحدهما- أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء.
الثاني- أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه. قلت: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابن نفيل الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يبعث أمة وحده»، وسطيح، وورقة ابن نوفل الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رأيته ينغمس في أنهار الجنة». فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله: {وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ} تقدم في البقرة والنساء. قوله تعالى: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} نظيره: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} وقد تقدم، فلينظر هناك.
وقال مجاهد: تبيانا للحلال والحرام.

.تفسير الآية رقم (90):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} روى عن عثمان بن مظعون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبى طالب رضي الله عنه فتعجب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فو الله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق. وفى حديث- إن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} الآية، قال: اتبعوا ابن أخى، فو الله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق.
وقال عكرمة: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الوليد بن المغيرة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} إلى آخرها، فقال: يا بن أخى أعد! فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر!. وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الايمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخى أعد! فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة... وذكر تمام الخبر.
وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه.
الثانية: اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان، فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض.
وقيل: العدل الفرض، والإحسان النافلة.
وقال سفيان بن عيينة: العدل ها هنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. علي بن أبى طالب: العدل الانصاف، والإحسان التفضل. قال ابن عطية:
العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والانصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الاجزاء داخل في الإحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر، لان أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سؤال جبريل بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة.
وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها، قال الله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} وعزوب الاطماع عن الاتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والانصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الانصاف وترك الأذى. قلت: هذا التفصيل في العدل حسن وعدل، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا: الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي حسنته وكلمته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به. قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا، فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك، وهو تعالى غنى عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن. وهو في حديث جبريل بالمعنى الأول لا بالثاني، فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار. وهو المراد بقوله«أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار إلى هذه الحالة بقوله: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وثانيهما- لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} وقوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى} أي القرابة، يقول: يعطيهم المال كما قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} يعني صلته. وهذا من باب عطف المندوب على الواجب، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب، على ما يأتي بيانه. وإنما خص ذا القربى لان حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب، لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، فقال في الصحيح: «أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك». ولا سيما إذا كانوا فقراء.
الرابعة: قوله تعالى: {وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} الفحشاء: الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل. ابن عباس: هو الزنى. والمنكر: ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها. وقيل هو الشرك. والبغي: هو الكبر والظلم والحقد والتعدي، وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره. وفى الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي».
وقال عليه السلام: «الباغي مصروع». وقد وعد الله من بغى عليه بالنصر. وفى بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.
الخامسة: ترجم الامام أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال: باب قوله الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وقوله: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ}، {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد ابن الأعصم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن بطال: فتأول رضي الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام: «أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا». ووجه ذلك- والله أعلم- أنه تأول في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته. فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي. قيل: وجه ذلك- والله أعلم- أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} وضمن تعالى نصرة من بغى عليه، كان الأولى بمن بغى عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باليهودي الذي سحره، وقد كان له الانتقام منه بقوله: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ}. ولكن آثر الصفح أخذا بقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
السادسة: تضمنت هذه الآية الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقد تقدم القول فيهما. روى أن جماعة رفعت عاملها إلى أبى جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها، بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شي، فقام فتى من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإنه عدل ولم يحسن. قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل.